فصل: الْقَسَمُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْقَسَمُ:

هُوَ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ الْحَلِفَ عَلَى شَيْءٍ، فَيَحْلِفُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ فَخْرٌ لَهُ أَوْ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ أَوْ تَنْوِيهٌ لِقَدْرِهِ أَوْ ذَمٌّ لِغَيْرِهِ أَوْ جَارِيًا مَجْرَى الْغَزَلِ الرَّقِيقِ أَوْ خَارِجًا مَخْرَجَ الْمَوْعِظَةِ وَالزُّهْدِ كَقَوْلِه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذَّارِيَات: 23]، أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَسَمٍ، فَوَجَبَ الْفَخْرُ لِتَضَمُّنِهِ التَّمَدُّحَ بِأَعْظَمِ قُدْرَةٍ وَأَجَلِّ عَظَمَةٍ.
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْحِجْر: 72]، أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحَيَاةِ نَبِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَنْوِيهًا بَقَدْرِهِ.
وَسَيَأْتِي فِي نَوْعِ الْأَقْسَامِ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بذَلِكَ.

.اللَّفُّ وَالنَّشْرُ:

هُوَ أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ أَوْ أَشْيَاءُ، إِمَّا تَفْصِيلًا بِالنَّصِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ إِجْمَالًا بِأَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ ثُمَّ يُذْكَرَ أَشْيَاءُ عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ، كُلُّ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُفَوِّضُ إِلَى عَقْلِ السَّامِعِ رَدَّ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ.
فَالْإِجْمَالِيُّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [الْبَقَرَة: 111]؛ أَيْ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا الْيَهُودُ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا النَّصَارَى، وَإِنَّمَا سَوَّغَ الْإِجْمَالَ فِي اللَّفِّ ثُبُوتُ الْعِنَادِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِدُخُولِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ الْجَنَّةَ، فَوُثِقَ بِالْعَقْلِ فِي أَنَّهُ يَرُدُّ كُلَّ قَوْلٍ إِلَى فَرِيقِهِ لِأَمْنِ اللَّبْسِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ.
قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْمَالُ فِي النَّشْرِ لَا فِي اللَّفِّ، بِأَنْ يُؤْتَى بِمُتَعَدِّدٍ، ثُمَّ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ يَصْلُحُ لَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [الْبَقَرَة: 187]، عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ أُرِيدَ بِهِ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ لَا اللَّيْلُ، وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ اللَّفُّ وَالنَّشْرُ فِي الْقُرْآنِ.
وَالتَّفْصِيلِيُّ قِسْمِان: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الْقَصَص: 73]، فَالسُّكُونُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّيْلِ، وَالِابْتِغَاءُ رَاجِعٌ إِلَى النَّهَارِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الْإِسْرَاء: 29]، فَاللَّوْمُ رَاجِعٌ إِلَى الْبُخْلِ وَ(مَحْسُورًا) رَاجِعٌ إِلَى الْإِسْرَافِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مُنْقَطِعًا لَا شَيْءَ عِنْدَكَ.
وَقَوْلِه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} الْآيَاتِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}، {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا}، فَإِنَّ الْمُرَادَ السَّائِلُ عَنِ الْعِلْمِ، كَمَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِه: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضُّحَى: 6- 11]، رَأَيْتُ هَذَا الْمِثَالَ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ لِلنَّوَوِيِّ الْمُسَمَّى بِـ التَّنْقِيحِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 106]، وجَعَلَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الْبَقَرَة: 214]، قَالُوا: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} قَوْلُ الَّذِينَ آمَنُوا. {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} قَوْلُ الرَّسُول: وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَهُ قِسْمًا آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الرُّوم: 23]، قَالَ: هَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ، وَتَقْدِيرُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِلَّا أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ (مَنَامِكُمْ) و(وَابْتِغَاؤُكُمْ) بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهُمَا زَمَانَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْوَاقِعُ فِيهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ إِقَامَةِ اللَّفِّ عَلَى الِاتِّحَادِ.

.الْمُشَاكَلَةُ:

ذِكْرُ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَة: 116]، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 54]، فَإِنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِ وَالْمَكْرِ فِي جَانِبِ الْبَارِي تَعَالَى لِمُشَاكَلَةِ مَا مَعَهُ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40]؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ حَقٌّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ سَيِّئَةٌ. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 194]، {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} [الْجَاثِيَة: 34]، {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التَّوْبَة: 79]، {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [الْبَقَرَة: 14، 15].
وَمِثَالُ التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 138]؛ أَيْ: تَطْهِيرُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ، وَالْأَصْلُ فِيه: أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَغْمِسُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَاءٍ أَصْفَرَ يُسَمُّونَهُ الْمَعْمُودِيَّةَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ تَطْهِيرٌ لَهُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِيمَانِ بِصِبْغَةِ اللَّهِ لِلْمُشَاكَلَةِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ.

.الْمُزَاوَجَةُ:

أَنْ يُزَاوَجَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُمَا كَقَوْلِه:
إِذَا مَا نَهَى النَّاهِي فَلَجَّ بِيَ الْهَوَى ** أَصَاخَتْ إِلَى الْوَاشِي فَلَجَّ بِهَا الْهَجْرُ

وَمِنْهُ فِي الْقُرْآن: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الْأَعْرَاف: 175].

.الْمُبَالَغَةُ:

أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ وَصْفًا فَيَزِيدُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ، وَهِيَ ضَرْبَان:
مُبَالَغَةٌ بِالْوَصْف: بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِحَالَةِ، وَمِنْهُ: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النُّور: 35]، {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الْأَعْرَاف: 40].
وَمُبَالَغَةٌ بِالصِّيغَة: وَصِيَغُ الْمُبَالَغَةِ (فَعْلَانُ) كَالرَّحْمَنِ، وَ(فَعِيلٌ) كَالرَّحِيمِ، وَ(فَعَّالٌ) كَالتَّوَّابِ وَالْغَفَّارِ وَالْقَهَّارِ، وَ(فَعُولٌ) كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَوَدُودٍ، وَ(فَعِلٌ) كَحَذِرٍ وَأَشِرٍ وَفَرِحٍ، وَ(فُعَالٌ) بِالتَّخْفِيفِ كَعُجَابٍ، وَبِالتَّشْدِيدِ كَكُبَّارٍ، وَ(فُعَلٌ) كَلُبَدٍ وَكُبَرٍ، وَ(فُعْلَى) كَالْعُلْيَا وَالْحُسْنَى وَشُورَى وَالسُّوءَى.
فَائِدَةٌ:
الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ (فَعْلَانَ) أَبْلَغُ مِنْ (فَعِيلٍ)، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ (الرَّحْمَنُ) أَبْلَغُ مِنَ (الرَّحِيمِ).
وَنَصَرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَالتَّثْنِيَةُ تَضْعِيفٌ، فَكَأَنَّ الْبِنَاءَ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الصِّفَةُ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى أَنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِتَقْدِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ كَعَبِيدٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ.
وَذَهَبُ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ.
فَائِدَةٌ:
ذَكَرَ الْبُرْهَانُ الرَّشِيدِيُّ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كُلُّهَا مَجَازٌ؛ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلَا مُبَالِغَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ أَنْ ثُثْبِتَ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ، وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ، لَا يُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا، وَأَيْضًا فَالْمُبَالَغَةُ تَكُونُ فِي صِفَاتٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَصِفَاتُ اللَّهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ. وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: التَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُرْآنِ قِسْمِانِ.
أَحَدُهَا: مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ.
وَالثَّانِي: بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَفْعُولَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً؛ إِذِ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُتَعَدِّدِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تَنْزِلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي (حَكِيمِ): مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ تَكْرَارُ حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ.
وَقَالَ فِي الْكَشَّاف: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَة: نُزِّلَ صَاحِبُهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ لِسَعَةِ كَرَمِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ سُؤَالًا عَلَى قَوْلِه: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْبَقَرَة: 284]، وَهُوَ أَنَّ قَدِيرًا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالِغَةِ فَيَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَعْنَى (قَادِرٍ)، وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَعْنَى (قَادِرٍ) مُحَالٌ؛ إِذِ الْإِيجَادُ مِنْ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَنْ كُلِّ فَرْدٍ وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ الْمُتَعَلَّقِ لَا الْوَصْفِ.

.الْمُطَابَقَةُ:

وَتُسَمَّى الطِّبَاقُ: الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَهُوَ قِسْمِان: حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌ: وَالثَّانِي يُسَمَّى التَّكَافُؤُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ وَإِمَّا طِبَاقُ إِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التَّوْبَة: 82]، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النَّجْم: 43، 44]، {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الْحَدِيد: 23]، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الْكَهْف: 18].
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِيّ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الْأَنْعَام: 122]؛ أَيْ: ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ طِبَاقِ السَّلْب: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَة: 166]، {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [الْمَائِدَة: 44].
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَعْنَوِيّ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 15، 16]، مَعْنَاهُ: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا لَصَادِقُونَ.
{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [الْبَقَرَة: 22]، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمَّا كَانَ الْبِنَاءُ رَفْعًا لِلْمَبْنِي قُوبِلَ بِالْفِرَاشِ الَّذِي هُوَ عَلَى خِلَافِ الْبِنَاءِ.
وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الطِّبَاقَ الْخَفِيَّ، كَقَوْلِه: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نُوحٍ: 25]؛ لِأَنَّ الْغَرَقَ مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ.
قَالَ ابْنُ مُنْقِذٍ: وَهِيَ أَخْفَى مُطَابَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزّ: مِنْ أَمْلَحِ الطِّبَاقِ وَأَخْفَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الْبَقَرَة: 179]؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ الْقَتْلُ، فَصَارَ الْقَتْلُ سَبَبُ الْحَيَاةِ.

.(تَرْصِيعُ الْكَلَام):

وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى تَرْصِيعُ الْكَلَامِ، فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ اقْتِرَانُ الشَّيْءِ بِمَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، كَقَوْلِه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طَه: 118، 119]، أَتَى بِالْجُوعِ مَعَ الْعُرْيِ، وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الظَّمَأِ. وَبِالضُّحَى مَعَ الظَّمَأِ، وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعُرْيِ، لَكِنَّ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ اشْتَرَكَا فِي الْخُلُوِّ؛ فَالْجُوعُ خُلُوُّ الْبَاطِنِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْعُرْيُ خُلُوُّ الظَّاهِرِ مِنَ اللِّبَاسِ. وَالظَّمَأُ وَالضُّحَى اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِرَاقِ، فَالظَّمَأُ احْتِرَاقُ الْبَاطِنِ مِنَ الْعَطَشِ، وَالضُّحَى احْتِرَاقُ الظَّاهِرِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ.

.(الْمُقَابَلَة):

وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الْمُقَابَلَةُ وَأَنْوَاعُهَا فِي الْقُرْآن: وَهِيَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظَانِ فَأَكْثَرُ ثُمَّ أَضْدَادُهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الطِّبَاقِ وَالْمُقَابَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطِّبَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ضِدَّيْنِ فَقَطْ، وَالْمُقَابَلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَا زَادَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الطِّبَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَضْدَادٍ، وَالْمُقَابَلَةَ بِالْأَضْدَادِ بِغَيْرِهَا.
قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَمِنْ خَوَاصِّ الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ فِي الْأَوَّلِ أَمْرٌ شُرِطَ فِي الثَّانِي ضِدُّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [اللَّيْل: 5]، قَابَلَ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْبُخْلِ، وَالِاتِّقَاءِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْيُسْرَى وَالْعُسْرَى، وَلَمَّا جُعِلَ التَّيْسِيرُ فِي الْأَوَّلِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالِاتِّقَاءِ وَالتَّصْدِيقِ، جُعِلَ ضِدُّهُ- وَهُوَ التَّعْسِيرُ- مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَضْدَادِهَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُقَابَلَةُ إِمَّا لِوَاحِدٍ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا كَقَوْلِه: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255].
أَوِ اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ كَقَوْلِه: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التَّوْبَة: 82].
أَوَ ثَلَاثَةٍ بِثَلَاثَةٍ كَقَوْلِه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الْأَعْرَاف: 157]، {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [الْبَقَرَة: 152].
وَأَرْبَعَةٍ بِأَرْبَعَةٍ كَقَوْلِه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الْآيَتَيْنِ [اللَّيْل: 5].
وَخَمْسَةٍ بِخَمْسَةٍ كَقَوْلِه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [الْبَقَرَة: 26]، الْآيَاتِ، قَابَلَ بَيْنَ: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، وَبَيْنَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وَ{أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}، وَبَيْنَ: {يُضِلُّ} وَ{يَهْدِي} وَبَيْنَ {يَنْقُضُونَ} وَ{مِيثَاقِهِ}، وَبَيْنَ {يَقْطَعُونَ} وَ{أَنْ يُوصَلَ}.
أَوْ سِتَّةٍ بِسِتَّةٍ كَقَوْلِه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 14، 15]، قَابَلَ: الْجَنَّاتِ، وَالْأَنْهَارَ، وَالْخُلْدَ، وَالْأَزْوَاجَ، وَالتَّطْهِيرَ، وَالرِّضْوَانَ، بِإِزَاء: النِّسَاءِ، وَالْبَنِينَ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ، وَالْأَنْعَامِ، وَالْحَرْثَ.
وَقَسَّمَ آخَرُ: الْمُقَابَلَةَ وَأَقْسَامُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: نَظِيرِيٍّ وَنَقِيضِيٍّ وَخِلَافِيٍّ.
مِثَالُ الْأَوَّل: مُقَابَلَةُ السِّنَةِ بِالنَّوْمِ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ بَابِ الرُّقَادِ الْمُقَابَلِ بِالْيَقَظَةِ فِي آيَة: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الْكَهْف: 18]، وَهَذَا مِثَالُ الثَّانِي، فَإِنَّهُمَا نَقِيضَانِ.
وَمِثَالُ الثَّالِث: مُقَابَلَةُ الشَّرِّ بِالرَّشَدِ فِي قَوْلِه: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنّ: 10]، فَإِنَّهُمَا خِلَافَانِ لَا نَقِيضَانِ، فَإِنَّ نَقِيضَ الشَّرِّ الْخَيْرُ، وَالرُّشْدِ الْغَيُّ.

.(الْمُوَارَبَةُ):

الْمُوَارَبَةُ- بِرَاءٍ مُهْمِلَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ-: أَنْ يَقُولَ الْمُتَكَلِّمُ قَوْلًا يَتَضَمَّنُ مَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِنْكَارُ اسْتَحْضَرَ بِحَذَقِهِ وَجْهًا مِنَ الْوُجُوهِ يَتَخَلَّصُ بِهِ، إِمَّا بِتَحْرِيفِ كَلِمَةٍ أَوْ تَصْحِيفِهَا أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَكْبَرِ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} [يُوسُفَ: 81]، فَإِنَّهُ قُرِئَ: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَلَمْ يَسْرِقْ}، فَأَتَى بِالْكَلَامِ عَلَى الصِّحَّةِ بِإِبْدَالِ ضَمَّةٍ مِنْ فَتْحَةٍ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرَتِهَا.

.الْمُرَاجَعَةُ:

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: هِيَ أَنْ يَحْكِيَ الْمُتَكَلِّمُ مُرَاجَعَةً فِي الْقَوْلِ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَاوِرٍ لَهُ، بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَعْدَلِ سَبْكٍ، وَأَعْذَبِ أَلْفَاظٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [الْبَقَرَة: 124]، جَمَعَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ- وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ- ثَلَاثَ مُرَاجَعَاتِ فِيهَا مَعَانِي الْكَلَامِ مِنَ الْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ.
قُلْتُ: أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: جَمَعَتِ الْخَبَرَ وَالطَّلَبَ، وَالْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ، وَالتَّأْكِيدَ وَالْحَذْفَ، وَالْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ.